الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم
أما بقية الآيات التي جاء بها موسى عليه السلام لبني إسرائيل فهي كثيرة مثل: {وَإِذ نَتَقْنَا الجبل فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ...} [الأعراف: 171].وأيضًا: {وَظَلَّلْنَا عَلَيْكُمُ الغمام...} [البقرة: 57].وكذلك قوله الحق: {وَأَنزَلْنَا عَلَيْكُمُ المن والسلوى...} [البقرة: 57].ولذلك أجمل الحق سبحانه الآيات التي جاءت مع موسى لقومه:{وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا موسى بِآيَاتِنَا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظلمات إِلَى النور وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله...} [إبراهيم: 5].أي: أَعِدْ إلى بُؤْرة شعورهم ما كان في الحاشية؛ وأنْ يستدعوا من الذاكرة أيام الله، والمراد ما حدث في تلك الأيام، مثلما نقول نحن يوم بدر أو يوم ذي قار أو السادس من أكتوبر أو العاشر من رمضان.وهنا في القول الكريم إما أن يكون التذكير بتلك الأيام الخاصة بالوقائع التي حدثتْ للأقوام السابقين عليهم كقوم نوح وعاد وثمود، ذلك أن الحق سبحانه قد أعلمهم بقصص الأقوام السابقة عليهم؛ وما حدث من كل قوم تجاه الرسول المُرْسل إليه من الله.أو أن يكون التذكير بالأيام التي أنعم الله فيها على بني إسرائيل بنعمه، أو ابتلاهم فيها بما يُؤلِمهم؛ ذلك أن الحق سبحانه قال: {وَذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ الله إِنَّ فِي ذلك لآيَاتٍ لِّكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ} [إبراهيم: 5].والصبَّار هو مَنْ يُكثِر الصبر على الأحداث؛ وهي كلمة تُوحيِ بأن هناك أحداثًا مؤلمة وقَعتْ، وتحتاج إلى الصبر عليها، كما تُوحِي كلمة {شكور} بحوادث منعمة تستحق الشكر.وهكذا نجد أن المؤمن يحتاج إلى أمرين؛ صَبْر على ما يُؤلِم، وشُكْر على ما يُرضي، وحين تجتمع هاتان الصفتان في مؤمن؛ يكون مُكتمِلَ الإيمان.وقد قال الحق سبحانه: إن تلك الآيات هي أدلة تُوضِّح الطريق أمام المؤمن، وتُعطي له العِبْرة، لأنه حين يعلم تاريخ الأقوام السابقة؛ ويجد أنَ مَنْ آمنَ منهم قد عانى من بعض الأحداث المؤلمة؛ لكنه نال رضا الله ونعمه؛ ومَنْ كفر منهم قد تمتع قليلًا، ثم تلَّقى نقمة الله وغضبه.هذا يُقبِل المؤمن على تحمُّل مَشَاقٍّ الإيمان؛ لأنه يثق في أن الحق سبحانه لا يُضِيع أجْر مؤمنٍ؛ ولابد لموكب الإيمان أنْ ينتصر؛ ولذلك فالمؤمن يصبر على المحن، ويشكر على النِّعَم.ويقول الحق سبحانه من بعد ذلك: {وَإِذْ قَالَ موسى لِقَوْمِهِ اذكروا...}.وهكذا نجد الحق سبحانه وقد جاء بنموذج من أيام معاناتهم من جبروت فرعون، وكيف خلَّصهم سبحانه من هذا الجبروت، وكان فرعون يُسلَّط عليهم أقسى ألوان العذاب، ف سام الشيء أي: طلبه؛ وسام سوء العذاب أي: طلب العذاب السيء.قد ذَبَّح فرعون أبناءهم الذكور، ولم يُذبِّح الإناث لتصبح النساء بلا عائل ويستبيحهُنَّ، وفي هذا نِكَاية شديدة.ووقف بعض المستشرقين عند هذه الآية، وقالوا: لقد تعرض القرآن من قبل لهذه الآية في سورة البقرة؛ حين قال: {وَإِذْ نَجَّيْنَاكُم مِّنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [البقرة: 49].فهل هذه الآية في سورة إبراهيم هي البليغة، أم الآية التي في سورة البقرة؛ خصوصًا وأن الفرق بينهما هو مجيء الواو كحرف عطف على ذبح الأبناء باستباحة النساء؟وأضاف هذا المستشرق: ولسوف أتنازل عن النظر إلى ما جاء في سورة الأعراف حين قال القرآن: {وَإِذْ أَنْجَيْنَاكُمْ مِّنْ آلِ فِرْعَونَ يَسُومُونَكُمْ سواء العذاب يُقَتِّلُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذلكم بلاء مِّن رَّبِّكُمْ عَظِيمٌ} [الأعراف: 141].وبطبيعة الحال، فهذا المستشرق لم يأخذ فَهْم القرآن عن مَلَكةٍ عربية، ذلك أنه لو كان قد امتلك هذه القدرة على الفَهْم؛ لَعرفَ أن الكلام لم يصدر في الآيات عن مصدر واحد، بل صدر عن مصدرين.ففي آية سورة البقرة كان المصدر المتكلم هو الله سبحانه ولذلك قال: {نَجَّيْنَاكُم...} [البقرة: 49].ولكن المصدر المتكلم في سورة إبراهيم هو موسى عليه السلام؛ لم يَقُلْ أنه هو الذي أنجاهم بل يُعدِّد النعم التي مَنَّ الله بها عليهم؛ ويمتنّ بها عليهم. وعِلَّة ذلك أن العظيم حين يمتنُّ على غيره لا يمتنُّ إلا بالعظائم، أما دون العظيم فقد يمتنُّ بما دون ذلك.وأسوق هذا المَثل لمزيد من الإيضاح لا للتشبيه؛ فسبحانه مُنزَّه عن التشبيه، وأقول: هَبْ أن إنسانًا غنيًا له أخ رقيق الحال، وقد يُمد الغنيُّ أخاه الفقير بأشياء كثيرة، وقد يعتني بأولاده؛ ويقوم برعايته ورعاية أولاده رعاية كاملة. ويأتي ابن الفقير ليقول لابن الغني: لماذا لا تسألون عنا؟ فيقول ابن الغني: ألم يَأْتِ أبي لك بهذا القلم وتلك البذلة، بالإضافة إلى الشقة التي تسكنون فيها؟ولكن العَمَّ الغنيّ يكتفي بأنْ يقول: أنا أسأل عنكم، بدليل أنِّي أحضرت لكم الشقة التي تسكنون فيها. إذن: فالكبير حقًا هو الذي يذكر الأمور الكبيرة، أما الأقل فهو من يُعدِّد الأشياء.وهنا يصف الحق سبحانه سوْم العذاب وذَبْح الأبناء بالبلاء العظيم في قوله تعالى: {ذلكم بلاء مِّن رَّبَّكُمْ عَظِيمٌ} [إبراهيم: 6].وهكذا نرى مظهرية الخير التي مَنَّ الله بها عليهم، وهي الإنجاء من ذبح الأبناء واستباحة النساء؛ وكان ذلك نوعًا من مظهرية الشر. وهذا ابتلاء صعب.وسبق أنْ أوضحنا أنَّ البلاء يكون بالخير أو بالشر، فقد قال سبحانه: {وَنَبْلُوكُم بالشر والخير فِتْنَةً وَإِلَيْنَا تُرْجَعُونَ} [الأنبياء: 35].فلا الخير دليلُ تكريم، ولا الشرَّ دليلُ إهانة؛ فهو القائل: {فَأَمَّا الإنسان إِذَا مَا ابتلاه رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ ربي أَكْرَمَنِ وَأَمَّا إِذَا مَا ابتلاه فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ ربي أَهَانَنِ} [الفجر: 15-16].فالابتلاء في الأصل هو الامتحان؛ إما أنْ تنجحَ فيه أو ترسبَ؛ ولذلك فهو غَيْر مذموم إلا بالنتيجة التي يَؤُول إليها. اهـ.
أو نَقَمه، كقوله: ووجهه: أنَّ العرب تتجوَّزُ فَتُسْنِدُ الحَدَثَ إلى الزمان مجازًا، وتُضيفُه إليها كقولهم: نهارٌ صائمٌ، وليل قائمٌ، ومَكْرُ الليلِ.{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ}قوله تعالى: {إِذْ أَنجَاكُمْ}: يجوز فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أن يكونَ منصوبًا ب {نِعْمَةَ}. الثاني: أن يكونَ ب {عليكم} ويوضِّح ذلك ما ذكره الزمخشريُّ فإنه قال: {إذ أنْجاكم} ظرفٌ للنعمة بمعنى الإِنعام، أي: إنعامه عليكم ذلك الوقت. فإن قلت: هل يجوزُ أن ينتصِبَ ب {عليكم}؟ قلت: لا يَخْلو: إمَّا أن يكونَ صلةً للنعمة بمعنى الإِنعام، أو غيرَ صلة إذا أردت بالنعمة العَطِيَّة، فإذا كان صلةً لم يعملْ فيه، وإذا كان غيرَ صلةٍ بمعنى: اذكروا نعمةَ الله مستقرةً عليكم عَمِلَ فيه. ويتبيَّن الفرقُ بين الوجهين: أنك إذا قلت: {نِعْمَةَ الله عَلَيْكُمْ} فإنْ جَعَلْتَه صلةً لم يكن كلامًا حتى تقول: فائضة أو نحوها، وإلاَّ كان كلامًا. والثالث: أنه بدلٌ من {نعمة}، أي: اذكروا وقتَ إنجائِكم وهو مِنْ بدلِ الاشتمال.قوله: {وَيُذَبِّحُونَ} حالٌ أُخرى مِنْ: {آلِ فِرْعَوْنَ}. وفي البقرة دون واو لأنه قُصِد به التفسيرُ فالسَّوْم هنا غيرُ السَّوْمِ هناك. اهـ.
ويقال ذكِّرْهم بأيام الله وهي التي كان العبدُ فيها في كتم العدم، والحق يتولَّى عباده قبل أن يكون لِلعبادِ فِعْلٌ؛ فلا جُهْدَ للسابقين، ولا عناءَ ولا تَرْكَ للمقتصدين، ولا وقع من الظالم لنفسه ظلم.إذ كان متعلق العلم متناول القدرة، والحكم على الإرادة.. ولم يكن للعبد اختيار في تلك الأيام.قوله: {إِنَّ في ذَلِكَ لأَيَاتٍ لِكُلّ صَبَّارٍ شَكُورٍ}.{صَبَّارٍ}: راضٍ بحكمه واقف عند كون لذيذ العيش يَسُرُّه.{شَكُورٍ}: محجوبٌ بشهود النِّعم عن استغراقه في ظهور حقه... هذا واقفٌ مع صبره وهذا واقف مع شكره، وكلٌّ مُلْزَمٌ بحده وقَدْرِه: والله غالب على أمره، مقدّسٌ في نَفْسِه مُتعزَّزٌ بجلال قُدْسِه.{وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آَلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)}تَذَكُّرُ ما سَلَفَ من النِّعَم يوجِبُ تجديد ما سَبقَ من المحبة، وفي الخبر: «جُبِلَتْ القلوبُ على حُبِّ مَنْ أحسن 'إليها» فالحقُّ أَمَرَ موسى عليه السلام بتذكير قومه ما سبق إليهم من فنون إنعامه، ولطائف إكرامه... وفي بعض الكتب المنزلة على الأنبياء- عليهم السلام-: عبدي، أنا لَكَ مُحِبُّ فبحقي عليكَ كنُ لي محبًا. اهـ.
|